فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالعتو والنفور، نبه على ما يدل على قبح هذين الوصفين.
{أفمنْ يمْشِي مُكِبّا على وجْهِهِ أهْدى أمّنْ يمْشِي سوِيّا على صِراطٍ مُسْتقِيمٍ (22)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال الواحدي: أكب مطاوع كبه، يقال: كببته فأكب ونظيره قشعت الريح السحاب فأقشع، قال صاحب (الكشاف): ليس الأمر كذلك، و(جاء) شيء من بناء أفعل مطاوعا، بل قولك: أكب معناه دخل في الكب وصار ذا كب، وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع، وأنفض أي دخل في النفض، وهو نفض الوعاء فصار عبارة عن الفقر وألام دخل في اللوم، وأما مطاوع كب وقشع فهو انكب وانقشع.
المسألة الثانية:
ذكروا في تفسير قوله: {يمْشِى مُكِبّا على وجْهِهِ} وجوها: أحدها: معناه أن الذي يمشي في مكان غير مستو بل فيه ارتفاع وانخفاض فيعثر كل ساعة ويخر على وجهه مكبا فحاله نقيض حال من يمشي سويا أي قائما سالما من العثور والخرور وثانيها: أن المتعسف الذي يمشي هكذا وهكذا على الجهالة والحيرة لا يكون كمن يمشي إلى جهة معلومة مع العلم واليقين وثالثها: أن الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيتعسف ولا يزال ينكب على وجهه لا يكون كالرجل السوي الصحيح البصر الماشي في الطريق المعلوم، ثم اختلفوا فمنهم من قال: هذا حكاية حال الكافر في الآخرة، قال قتادة: الكافر أكب على معاصي الله فحشره الله يوم القيامة على وجهه، والمؤمن كان على الدين الواضح فحشره الله تعالى على الطريق السوي يوم القيامة، وقال آخرون: بل هذا حكاية حال المؤمن والكافر والعالم والجاهل في الدنيا، واختلفوا أيضا فمنهم من قال: هذا عام في حق جميع المؤمنين والكفار، ومنهم من قال: بل المراد منه شخص معين، فقال مقاتل: المراد أبو جهل والنبي عليه الصلاة والسلام، وقال عطاء عن ابن عباس: المراد أبو جهل وحمزة بن عبد المطلب وقال عكرمة هو أبو جهل وعمار بن ياسر.
البرهان الثاني: على كمال قدرته قوله تعالى: {قُلْ هُو الّذِي أنْشأكُمْ وجعل لكُمُ السّمْع والْأبْصار والْأفْئِدة قلِيلا ما تشْكُرُون (23)}
اعلم أنه تعالى لما أورد البرهان أولا من حال سائر الحيوانات، وهو وقوف الطير في الهواء، أورد البرهان بعده من أحوال الناس وهو هذه الآية، وذكر من عجائب ما فيه حال السمع والبصر والفؤاد، ولقد تقدم شرح أحوال هذه الأمور الثلاثة في هذا الكتاب مرارا فلا فائدة في الإعادة، واعلم أن في ذكرها هاهنا تنبيها على دقيقة لطيفة، كأنه تعالى قال: أعطيتكم هذه الإعطاءات الثلاثة مع ما فيها من القوى الشريفة، لكنكم ضيعتموها فلم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه، ولا تأملتم في عاقبة ما عقلتموه، فكأنكم ضيعتم هذه النعم وأفسدتم هذه المواهب، فلهذا قال: {قلِيلا مّا تشْكُرُون} وذلك لأن شكر نعمة الله تعالى هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه، وأنتم لما صرفتم السمع والبصر والعقل لا إلى طلب مرضاته فأنتم ما شكرتم نعمته ألبتة.
البرهان الثالث: قوله تعالى: {قُلْ هُو الّذِي ذرأكُمْ فِي الْأرْضِ وإِليْهِ تُحْشرُون (24)}
اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوانات أولا ثم بصفات الإنسان ثانيا وهي السمع والبصر والعقل، ثم بحدوث ذاته ثالثا وهو قوله: {هُو الذي ذرأكُمْ في الأرض} واحتج المتكلمون بهذه الآية على أن الإنسان ليس هو الجوهر المجرد عن التحيز والكمية على ما يقوله الفلاسفة وجماعة من المسلمين لأنه قال: {قُلْ هُو الذي ذرأكُمْ في الأرض} فبين أنه ذرأ الإنسان في الأرض، وهذا يقتضي كون الإنسان متحيزا جسما، واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر والنشر ليثبت ما ادعاه من الابتلاء في قوله: {لِيبْلُوكُمْ أيُّكُمْ أحْسنُ عملا وهُو العزيز الغفور} [الملك: 2] ثم لأجل إثبات هذا المطلوب، ذكر وجوها من الدلائل على قدرته، ثم ختمها بقوله: {قُلْ هُو الذي ذرأكُمْ في الأرض} ولما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة لا جرم قال بعده: {وإِليْهِ تُحْشرُون} فبين بهذا أن جميع ما تقدم ذكره من الدلائل إنما كان لإثبات هذا المطلوب.
واعلم أنه تعالى لما أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يخوفهم بعذاب الله حكى عن الكفار شيئين أحدهما: أنهم طالبوه بتعيين الوقت. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أفمن يمْشِي مُكِبّا على وجْهِهِ}
ضرب الله مثلا للمؤمن والكافر {مُكِبّا} أي منكِّسا رأسه لا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله؛ فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه.
كمن يمشي سوِيّا معتدلا ناظرا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله.
قال ابن عباس: هذا في الدنيا؛ ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف؛ فلا يزال ينكبّ على وجهه.
وأنه ليس كالرجل السوِيّ الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدي له.
وقال قتادة: هو الكافر أكبّ على معاصي الله في الدنيا فحشره الله يوم القيامة على وجهه.
وقال ابن عباس والكلْبي: عنى بالذي يمشي مُكِبّا على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سوِيّا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل أبو بكر.
وقيل حمزة.
وقيل عمّار ابن ياسِر؛ قاله عكرمة.
وقيل: هو عام في الكافر والمؤمن؛ أي أن الكافر لا يدري أعلى حقّ هو أم على باطل.
أي أهذا الكافر أهدى أو المسلم الذي يمشي سوِيّا معتدلا يُبصر للطريق وهو {على صِراطٍ مُّسْتقِيمٍ} وهو الإِسلام.
ويقال: أكبّ الرجل على وجهه؛ فيما لا يتعدّى بالألف.
فإذا تعدى قيل: كبّه الله لوجهه؛ بغير ألف.
قوله تعالى: {قُلْ هُو الذي أنشأكُمْ} أمر نبيه أن يعرّفهم قبح شركهم مع اعترافهم بأن الله خلقهم.
{وجعل لكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} يعني القلوب {قلِيلا مّا تشْكُرُون} أي لا تشكرون هذه النِّعم، ولا توحِّدون الله تعالى.
تقول: قلّما أفعل كذا؛ أي لا أفعله.
قوله تعالى: {قُلْ هُو الذي ذرأكُمْ فِي الأرض} أي خلقكم في الأرض؛ قاله ابن عباس.
وقيل: نشركم فيها وفرّقكم على ظهرها؛ قاله ابن شجرة.
{وإِليْهِ تُحْشرُون} حتى يجازِي كُلاّ بعمله. اهـ.

.قال الألوسي:

{أفمن يمْشِى مُكِبّا على وجْهِهِ أهدى أمّن يمْشِى سوِيّا على صراط مُّسْتقِيمٍ}
مثل ضرب للمشرك والموحد توضيحا لحاليهما في الدنيا وتحقيقا لشأن مذهبيهما والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حال الكفرة وخرورهم في مهاوي الغرور وركوبهم متن عشواء العتو والنفور فإن تقدم الهمزة عليها صورة إنما هو لاقتضاء الصدارة وأما بحسب المعنى فالمعنى بالعكس على ماهو المشهور حتى لو كان مكان الهمزة هل لقيل فهل من يمشي إلخ ومن موصولة مبتدأ ويمشي صلته ومكبا حال من الضمير المستتر فيه وعلى وجهه ظرف لغو متعلق بمكبا أو مستقر حال والأول أولى وأهدى خبر من ومن الثانية عطف على الأولى وهو من عطف المفرد على المفرد كما في قولك أزيد أفضل أم عمرو وقيل مبتدأ خبره محذوف لدلالة خبر الأولى عليه ولا حاجة إلى ذلك لما سمعت والمكب الساقط على وجه يقال أكب خر على وجهه وهو من باب الأفعال والمشهور أنه لازم وثلاثيه متعد فيقال كبه الله تعالى فاكب وقد جاء ذلك على خلاف القياس وله نظائر يسيرة كأمرت الناقة درت ومر تيها وأشنق البعير رفع رأسه وشنقته واقشع الغيم وقشعته الريح أي أزالته وكشفته وأنزفت البئر ونزفتها أخرجت ماءها وأنسل ريش الطائر ونسلته وقال بعضهم التحقيق أن الهمزة فيه للصيرورة فمعنى أكب صار ذا كب ودخل فيه كما في الأم إذا صار لئيما وانفض إذا صار نافضا لما في مزودته وليست للمطاوعة ومطاوع كب إنما هو انكب وقد ذهب إلى ذلك ابن سيده في المحكم تبعا للجوهري وغيره وتبعه ابن الحاجب وأكثر شراح المفصل إلا أن كلام بعض الأجلة ظاهر في التسوية بين المطاوعة والصيرورة وحكى ابن الأعرابي كبه الله تعالى وأكبه بالتعدية وفي (القاموس) ما هو نص فيه وعليه لا مخالفة للقياس والمعنى أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة ويخر على وجهه في كل خطوة لتوعر طريقه واختلاف أجزائه بانخفاض بعض وارتفاع بعض آخر أهدى وأرشد إلى المقصد الذي يؤمه أم من يمشي قائما سالما من الخبط والعثار على طريق مستوى الأجزاء لا إعواج فيه ولا انحراف ولم يصرح بطريق الكافر بل أشير إليه بما دل على توعره وعدم استقامته أعني مكبا للاشعار بأن ما عليه لا يليق أن يسمى طريقا وفسر بعضهم السوي بمستوى الجهة قليل الانحراف على أن المكب المتعسف الذي ينحرف هكذا وهكذا وهو غير مناسب هنا لأن قوله تعالى على صراط مستقيم يصير كالمكرر وأفعل هنا مثله على ما في (البحر) في قولك العسل أحلى من الخل والآية على ما روى عن ابن عباس نزلت في أبي جهل عليه اللعنة وحمزة رضي الله تعالى عنه والمراد العموم كما روى عن ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك وقال قتادة نزلت مخبرة عن حال الكافر والمؤمن في الآخرة فالكفار يمشون فيها على وجوههم والمؤمنون يمشون على استقامة وروى أنه قيل للنبي كيف يمشي الكافر على وجهه فقال عليه الصلاة والسلام «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه» وعليه فلا تمثيل وقيل المراد بالمكب الأعمى وبالسوي البصير وذلك إما من باب الكناية أو من باب المجاز المرسل وهو لا يأبى جعله بعد تمثيلا لمن سمعت كما هو معلوم في محله.
{قُلْ هُو الّذِي أنْشأكُمْ وجعل لكُمُ السّمْع والْأبْصار والْأفْئِدة}
أي القلوب {قلِيلا مّا تشْكُرُون} أي تلك النعم كان تستعملون السمع في سماع الآيات التنزيلية على وجه الانتفاع بها والأبصار في النظر بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله عز وجل والأفئدة بالتفكر بها فيما تسمعونه وتشاهدونه ونصب قليلا على أنه صفة مصدر مقدر أي شكرا قليلا وما مزيدة لتأكيد التقليل والجملة حال مقدرة والقلة على ظاهرها أو بمعنى النفي إن كان الخطاب للكفرة وجوز في الجملة أن تكون مستأنفة والأول أولى.
{قُلْ هُو الذي ذرأكُمْ في الأرض} أي خلقكم وكثركم فيها لا غيره عز وجل {وإِليْهِ تُحْشرُون} للجزاء لا إلى غيره سبحانه اشتركا أو استقلالا فابنوا أمركم على ذلك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أفمنْ يمْشِي مُكِبّا على وجْهِهِ أهْدى أمّنْ يمْشِي سوِيّا على صِراطٍ مُسْتقِيمٍ (22)}
هذا مثل ضربه الله للكافرين والمؤمنين أو لرجلين: كافر ومؤمن، لأنه جاء مفرعا على قوله: {إن الكافرون إلاّ في غرور} [الملك: 20] وقوله: {بل لجُّوا في عتوّ ونفور} [الملك: 21] وما اتصل ذلك به من الكلام الذي سيق مساق الحجة عليهم بقوله: {أمّنْ هذا الذي هو جندٌ لكم} [الملك: 20] {أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه} [الملك: 21]، وذلك مما اتفق عليه المفسرون على اختلاف مناحيهم ولكن لم يعرج أحد منهم على بيان كيف يتعين التمثيل الأول للكافرين والثاني للمؤمنين حتى يظهر وجه إلزام الله المشركين بأنهم أهل المثل الأول مثللِ السوء، فإذا لم يتعين ذلك من الهيئة المشبهة لم يتضح إلزام المشركين بأن حالهم حال التمثيل الأول، فيخال كل من الفريقين أن خصمه هو مضرب المثل السوء.
ويتوهم أن الكلام ورد على طريقة الكلام المُنصِف نحو {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] بذلك ينبو عنه المقام هنا لأن الكلام هنا وارد في مقام المحاجة والاستدلال وهنالك في مقام المتاركة أو الاستنزال.
والذي انقدح لي: أن التمثيل جرى على تشبيه حال الكافر والمؤمن بحالة مشي إنسان مختلفة وعلى تشبيه الدين بالطريق المسلوكة كما يقتضيه قوله: {على صراط مستقيم} فلابد من اعتبار مشي المكبّ على وجهه مشيا على صراط مُعْوجّ، وتعين أن يكون في قوله: {مكبا على وجهه} استعارة أخرى بتشبيه حال السالك صراطا معوجا في تأمله وترسُّمه آثار السير في الطريق غير المستقيم خشية أن يضلّ فيه، بحال المكِبّ على وجهه يتوسم حال الطريق وقرينة ذلك مقابلته بقوله: {سوِيّا} المشعر بأن {مُكبا} أطلق على غير السوي وهو المنحني المطاطئ يتوسم الآثار اللائحة من آثار السائرين لعله يعرف الطريق الموصلة إلى المقصود.
فالمشرك يتوجه بعبادته إلى آلهة كثيرة لا يدري لعل بعضها أقوى من بعض وأعطف على بعض القبائل من بعض، فقد كانت ثقيف يعبدون اللات، وكان الأوس والخزرج يعبدون مناة ولكل قبيلة إله أو آلهة فتقسموا الحاجات عندها واستنصر كل قوم بآلهتهم وطمعوا في غنائها عنهم وهذه حالة يعرفونها فلا يمترون في أنهم مضرب المثل الأول، وكذلك حال أهل الإِشراك في كل زمان، ألا تسمع ما حكاه الله عن يوسف عليه السلام من قوله: {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف: 39].
ويُنور هذا التفسير أنه يفسره قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] وقوله: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن وسبحان الله وما أنا من المشركين} [يوسف: 108]، فقابل في الآية الأولى الصراط المستقيم المشبه به الإِسلام بالسُّبل المتفرقة المشبه بها تعداد الأصنام، وجعل في الآية الثانية الإسلام مشبها بالسبيل وسالكُه يدعو ببصيرة ثم قابل بينه وبين المشركين بقوله: {وما أنا من المشركين} [يوسف: 108].
فالآية تشتمل على ثلاث استعارات تمثيلية فقوله: {يمشي مكبّا على وجهه} تشبيه لحال المشرك في تقسُّم أمره بين الآلهة طلبا للذي ينفعه منها الشاكّ في انتفاعه بها، بحال السائر قاصدا أرضا معينة ليست لها طريق جادة فهو يتتبع بنيات الطريق الملتوية وتلتبس عليه ولا يوقن بالطريقة التي تبلُغ إلى مقصده فيبقى حائرا متوسما يتعرف آثار أقدام الناس وأخفاف الإِبل فيعلم بها أن الطريق مسلوكة أو متروكة.
وفي ضمن هذه التمثيلية تمثيلية أخرى مبنية عليها بقوله: {مكبا على وجهه} بتشبيه حال المتحيّر المتطلب للآثار في الأرض بحال المكب على وجهه في شدة اقترابه من الأرض.
وقوله: {أمّن يمشي سويّا} تشبيه لحال الذي آمن بربّ واحد الواثق بنصر ربه وتأييده وبأنه مصادف للحق، بحال الماشي في طريق جادة واضحة لا ينظر إلاّ إلى اتجاه وجهه فهو مستو في سيره.
وقد حصل في الآية إيجاز حذف إذ استغني عن وصف الطريق بالالتواء في التمثيل الأول لدلالة مقابلته بالاستقامة في التمثيل الثاني.
والفاء التي في صدر الجملة للتفريع على جميع ما تقدم من الدلائل والعبر من أول السورة إلى هنا، والاستفهام تقريري.
والمُكِب: اسم فاعل من أكب، إذا صار ذا كبّ، فالهمزة فيه أصلها لإِفادة المصير في الشيء مثل همزة: أقشع السحابُ، إذا دخل في حالة القشع، ومنه قولهم: أنفض القوم إذا هلكت مواشيهم، وأرملوا إذا فني زادهم، وهي أفعال قليلة فيما جاء فيه المجرد متعديا والمهموز قاصرا.
و{أهدى} مشتق من الهُدى، وهو معرفة الطريق وهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة لأن الذي يمشي مكبا على وجهه لا شيء عنده من الاهتداء فهو من باب قوله تعالى: {قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} [يوسف: 33] في قول كثير من الأيمة.
ومثل هذا لا يخلو من تهكم أو تمليح بحسب المقام.
والسويّ: الشديد الاستواء فعيل بمعنى فاعل قال تعالى: {أهْدِك صراطا سويا} [مريم: 43].
و(أم) في قوله: {أمن يمشي سويا} حرف عطف وهي (أم) المعادلة لهمزة الاستفهام.
و(من) الأولى والثانية في قوله: {أفمن يمشي مكبا} أو قوله: {أمن يمشي سويا} موصولتان ومحْملهما أن المراد منهما فريق المؤمنين وفريق المشركين، وقيل: أريد شخص معيّن أريد بالأولى أبو جهل، وبالثانية النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر أو حمزة رضي الله عنهما.
{قُلْ هُو الّذِي أنْشأكُمْ وجعل لكُمُ السّمْع والْأبْصار والْأفْئِدة قلِيلا ما تشْكُرُون (23)}
هذا انتقال من توجيه الله تعالى الخطاب إلى المشركين للتبصير بالحجج والدلائل وما تخلل ذلك من الوعيد أو التهديد إلى خطابهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما سيُذكر تفننا في البيان وتنشيطا للأذهان حتى كأنّ الكلام صدر من قائلين وترفيعا لقدر نبيئه صلى الله عليه وسلم بإعطائه حظا من التذكير معه كما قال تعالى: {فإنما يسرناه بلسانك} [الدخان: 58].
والانتقال هنا إلى الاستدلال بفُروع المخلوقات بعد الاستدلال بأصولها، ومن الاستدلال بفروع أعراض الإِنسان بعد أصلها، فمن الاستدلال بخلق السماوات والأرض والموت والحياة، إلى الاستدلال بخلق الإِنسان ومداركه، وقد أتبع الأمر بالقول بخمسةٍ مِثْلِه بطريقة التكرير بدون عاطف اهتماما بما بعد كل أمر من مقالة يبلغها إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار}، إلخ.
والضمير {هو} إلى {الرحمان} من قوله: {من دون الرحمان} [الملك: 20].
والإِنشاء: الإيجاد.
وإفراد {السمع} لأن أصله مصدر، أي جعل لكم حاسة السمع، وأما {الأبصار} فهو جمع البصر بمعنى العين، وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} في سورة البقرة (7) و{الأفئدة} القلوب، والمراد بها العقول، وهو إطلاق شائع في استعمال العرب.
والقصر المستفاد من تعريف المسند إليه والمسندِ في قوله: {هو الذي أنشأكم} إلى آخره قصرُ إفراد بتنزيل المخاطبين لشركهم منزلة من يعتقد أن الأصنام شاركت الله في الإِنشاء وإعطاء الإِحساس والإِدراك.
و{قليلا ما تشكرون} حال من ضمير المخاطبين، أي أنعم عليكم بهذه النعم في حال إهمالكم شكرها.
و{ما} مصدرية والمصدر المنسبك في موضع فاعل {قليلا} لاعتماد {قليلا} على صاحب حال.
و{قليلا} صفة مشبّهة.
وقد استعمل {قليلا} في معنى النفي والعدم، وهذا الإِطلاق من ضروب الكناية والاقتصاد في الحكم على طريقة التمليح وتقدم عند قوله تعالى: {فقليلا ما يؤمنون} [البقرة: 88] وقوله تعالى: {فلا يؤمنون إلاّ قليلا} في سورة النساء (155)، وتقول العرب: هذه أرض قلما تنبت.
{قُلْ هُو الّذِي ذرأكُمْ فِي الْأرْضِ وإِليْهِ تُحْشرُون (24)}
إعادة فعل {قل} من قبيل التكرير المشعر بالاهتمام بالغرض المسوقة فيه تلك الأقوال.
والذرْء: الإِكثار من الموجود، فهذا أخص من قوله: {هو الذي أنشأكم} [الملك: 23] أي هو الذي كثّركم على الأرض كقوله: {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود: 61] أي أعمركم إياها.
والقول في صيغة القصر في قوله: {هو الذي ذرأكم في الأرض}.
مثل القول في قوله: {هو الذي أنشأكم} [الملك: 23] الآية.
وقوله: {وإليه تحشرون} أي بعد أن أكثركم في الأرض فهو يزيلكم بموت الأجيال فكني عن الموت بالحشر لأنهم قد علموا أن الحشر الذي أُنذروا به لا يكون إلاّ بعد البعث والبعث بعد الموت، فالكناية عن الموت بالحشر بمرتبتين من الملازمة، وقد أدمج في ذلك تذكيرهم بالموت الذي قد علموا أنه لابد منه، وإنذارهم بالبعث والحشر.
فتقديم المعمول في {وإليه تحشرون} للاهتمام والرعاية على الفاصلة، وليس للاختصاص لأنهم لم يكونوا يدعون الحشر أصلا فضلا عن أن يدعوه لغير الله. اهـ.